فصل: هَلْ كَانَتْ حَجّةُ الصّدّيقِ قَبْلَ فَرِيضَةِ الْحَجّ وَإِلْغَاءِ النّسِيءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.إعْطَاءُ الْبَشِيرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ:

وَفِي نَزْعِ كَعْبٍ ثَوْبَيْهِ وَإِعْطَائِهِمَا لِلْبَشِيرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ إعْطَاءَ الْمُبَشّرِينَ مِنْ وَقَدْ أَعْتَقَ الْعَبّاسُ غُلَامَهُ لَمّا بَشّرَهُ أَنّ عِنْدَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يَسُرّهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ الْبَشِيرِ جَمِيعَ ثِيَابِهِ.

.اسْتِحْبَابُ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيّةٌ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيّةٌ وَالْقِيَامُ إلَيْهِ إذَا أَقْبَلَ وَمُصَافَحَتُهُ فَهَذِهِ سُنّةٌ مُسْتَحَبّةٌ وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيّةٌ وَأَنّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَهُ لِيَهْنِكَ مَا أَعْطَاك اللّهُ وَمَا مِنْ اللّهِ بِهِ عَلَيْك وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النّعْمَةِ رَبّهَا وَالدّعَاءَ لِمَنْ نَالَهَا بِالتّهَنّي بِهَا.

.يَوْمُ تَوْبَةِ الْمُسْلِمِ خَيْرُ الْأَيّامِ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ خَيْرَ أَيّامِ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَفْضَلَهَا يَوْمَ تَوْبَتِهِ إلَى اللّهِ وَقَبُولِ اللّهِ تَوْبَتَهُ لِقَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمّكَ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ خَيْرًا مِنْ يَوْمِ إسْلَامِهِ؟ قِيلَ هُوَ مُكَمّلٌ لِيَوْمِ إسْلَامِهِ وَمِنْ تَمَامِهِ فَيَوْمُ إسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.سُرُورُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَى الْمُخَلّفِينَ دَلِيلٌ عَلَى شَفَقَتِهِ عَلَى أُمّتِهِ:

وَفِي سُرُورِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ كَمَالِ الشّفَقَةِ عَلَى الْأُمّةِ وَالرّحْمَةِ بِهِمْ وَالرّأْفَةِ حَتّى لَعَلّ فَرَحَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ.

.اسْتِحْبَابُ الصّدَقَةِ عِنْدَ التّوْبَةِ:

وَقَوْلُ كَعْبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي. دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصّدَقَةِ عِنْدَ التّوْبَةِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ.

.مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِكُلّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ:

وَقَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِكُلّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْقِيَ لَهُ مِنْهُ بَقِيّةٌ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي ذَلِكَ فَفِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك وَلَمْ يُعَيّنْ لَهُ قَدْرًا بَلْ أَطْلَقَ وَوَكَلَهُ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ الْكِفَايَةِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فَإِنّ مَا نَقَصَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ أَهْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التّصَدّقُ بِهِ فَنَذْرُهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ وَحَاجَتِهِ فَإِخْرَاجُهُ وَالصّدَقَةُ بِهِ أَفْضَلُ فَيَجِبُ إخْرَاجُهُ إذَا نَذَرَهُ هَذَا قِيَاسُ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًا لِلّهِ كَالْكَفّارَاتِ وَالْحَجّ أَوْ حَقًا لِلْآدَمِيّينَ كَأَدَاءِ الدّيُونِ فَإِنّا نَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ مَا لَابُدّ مِنْهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَكُسْوَةٍ وَآلَةِ حِرْفَةٍ أَوْ مَا يَتّجِرُ بِهِ لِمُؤْنَتِهِ إنْ فُقِدَتْ الْحِرْفَةُ وَيَكُونُ حَقّ الْغُرَمَاءِ فِيمَا بَقِيَ. وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنّ مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَجْزَاهُ ثُلُثُهُ وَاحْتَجّ لَهُ أَصْحَابُهُ بِمَا رُوِيَ فِي قِصّةِ كَعْبٍ هَذِهِ أَنّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلّهِ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً قَالَ لَا قُلْت: فَنَصِفُهُ؟ قَالَ لَا قُلْت: فَثُلُثُهُ قَالَ نَعَمْ قُلْت: فَإِنّي أُمْسِكُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي ثُبُوتِ هَذَا مَا فِيهِ فَإِنّ الصّحِيحَ فِي قِصّةِ كَعْبٍ هَذِهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ وَلَدِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِقَدْرِهِ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْقِصّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنّهُمْ وَلَدُهُ وَعَنْهُ نَقَلُوهَا.

.مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ:

فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لَمّا تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَك وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجْزِئُ- عَنْكَ الثّلُثُ قِيلَ هَذَا هُوَ الّذِي احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ لَا بِحَدِيثِ كَعْبٍ فَإِنّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدّقَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِمّا يَمْلِكُهُ فَاَلّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَبَا لُبَابَةَ بِالثّلُثِ وَأَحْمَدُ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ أَنْ يَحْتَجّ بِحَدِيثِ كَعْبٍ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك وَكَأَنّ أَحْمَدَ رَأَى تَقْيِيدَ إطْلَاقِ حَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ. وَقَوْلُهُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدّقَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُ إنّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ نَذْرِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ ثُمّ إذَا قَضَى الدّيْنَ أَخْرَجَ مِقْدَارَ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ النّذْرِ وَهَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ: إذَا وَهَبَ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ وَاسْتَفَادَ غَيْرُهُ فَإِنّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ حِنْثِهِ يُرِيدُ بِيَوْمِ حِنْثِهِ يَوْمَ نَذْرِهِ فَيَنْظُرُ قَدْرَ الثّلُثِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيُخْرِجُهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ أَوْ بِبَعْضِهِ. يُرِيدُ أَنّهُ إذَا نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمُعَيّنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِمِقْدَارٍ كَأَلْفٍ وَنَحْوِهَا فَيُجْزِئُهُ ثُلُثُهُ كَنَذْرِ الصّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَالصّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ لُزُومُ الصّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمُعَيّنِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنّ الْمُعَيّنَ إنْ كَانَ ثُلُثَ مَالِهِ فَمَا دُونَهُ لَزِمَهُ الصّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى الثّلُثِ لَزِمَهُ مِنْهُ بِقِدْرِ الثّلُثِ وَهِيَ أَصَحّ عِنْدَ أَبِي الْبَرَكَاتِ. وَبَعْدُ فَإِنّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ كَعْبًا وَأَبَا لُبَابَةَ نَذَرَا نَذْرًا مُنَجّزًا وَإِنّمَا قَالَا: إنّ مِنْ تَوْبَتِنَا أَنْ نَنْخَلِعَ مِنْ أَمْوَالِنَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي النّذْرِ وَإِنّمَا فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى الصّدَقَةِ بِأَمْوَالِهِمَا شُكْرًا لِلّهِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِمَا فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَعْضَ الْمَالِ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إخْرَاجِهِ كُلّهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ لِسَعْدٍ وَقَدْ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلّهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي قَدْرِ الثّلُثِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدْفَعُهُ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ يُجْزِئُك وَالْإِجْزَاءُ إنّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَالثّانِي: أَنّ مَنْعَهُ مِنْ الصّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثّلُثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ إذْ الشّارِعُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقُرْبِ وَنَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. قِيلَ أَمّا قَوْلُهُ يُجْزِئُك فَهُوَ بِمَعْنَى يَكْفِيك فَهُوَ مِنْ الرّبَاعِيّ وَلَيْسَ مِنْ جَزَى عَنْهُ إذَا قَضَى عَنْهُ يُقَالُ أَجْزَأَنِي: إذَا كَفَانِي وَجَزَى عَنّي: إذَا قَضَى عَنّي وَهَذَا هُوَ الّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي الْأُضْحِيّةِ تَجْزِي عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك وَالْكِفَايَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبّ. وَأَمّا مَنْعُهُ مِنْ الصّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثّلُثِ فَهُوَ إشَارَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْأَرْفَقِ بِهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَإِنّهُ لَوْ مَكّنَهُ مِنْ إخْرَاجِ مَالِهِ كُلّهِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَدَمُ كَمَا فَعَلَ بِاَلّذِي جَاءَهُ بِالصّرّةِ لِيَتَصَدّقَ بِهَا فَضَرَبَهُ بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ الْفَقْرِ وَعَدَمِ الصّبْرِ. وَقَدْ يُقَالُ- وَهُوَ أَرْجَحُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى- إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِمّنْ أَرَادَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ فَمَكّنَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ مِنْ إخْرَاجِ مَالِهِ كُلّهِ وَقَالَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَرّ عُمَرُ عَلَى الصّدَقَةِ بِشَطْرِ مَالِه وَمَنَعَ صَاحِبَ الصّرّةِ مِنْ التّصَدّقِ بِهَا وَقَالَ لِكَعْبٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُخْرَجِ بِأَنّهُ الثّلُثُ وَيَبْعُدُ جِدّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُمْسَكُ ضِعْفَيْ الْمُخْرَجِ فِي هَذَا اللّفْظِ وَقَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ يُجْزِئُك الثّلُثُ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَمْسَكَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى سُؤَالِ النّاسِ مُدّةَ حَيَاتِهِمْ مِنْ رَأْسِ مَالٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ أَرْضٍ يَقُومُ مُغِلّهَا بِكِفَايَتِهِمْ وَتَصَدّقَ بِالْبَاقِي. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ: يَتَصَدّقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الزّكَاةِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إنْ كَانَ أَلْفَيْنِ فَأَكْثَرَ أَخْرَجَ عُشُرَهُ وَإِنْ كَانَ أَلْفًا فَمَا دُونَ فَسُبُعَهُ وَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ فَخُمُسَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ يَتَصَدّقُ بِكُلّ مَالِهِ الّذِي تَجِبُ فِيهِ الزّكَاةُ وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزّكَاةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُهُ وَالثّانِيَةُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الشّافِعِيّ: تَلْزَمُهُ الصّدَقَةُ بِمَالِهِ كُلّهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالزّهْرِيّ وَأَحْمَدُ يَتَصَدّقُ بِثُلُثِهِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ.

.فصل عَظَمَةُ الصّدْقِ:

وَمِنْهَا: عِظَمُ مِقْدَارِ الصّدْقِ وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنّجَاةِ مِنْ شَرّهِمَا بِهِ فَمَا أَنْجَى اللّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إلّا بِالصّدْقِ وَلَا أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَهُ إلّا أَمَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ فَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ} [التّوْبَةُ 119]. وَقَدْ قَسّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إلَى قِسْمَيْنِ سُعَدَاءُ وَأَشْقِيَاءُ فَجَعَلَ السّعَدَاءَ هُمْ أَهْلَ الصّدْقِ وَالتّصْدِيقِ وَالْأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتّكْذِيبِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطّرِدٌ مُنْعَكِسٌ. فَالسّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصّدْقِ وَالتّصْدِيقِ وَالشّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتّكْذِيبِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَنّهُ لَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلّا صِدْقُهُمْ. وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُنَافِقِينَ الّذِي تَمَيّزُوا بِهِ هُوَ الْكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَجَمِيعُ مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَصْلُهُ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَالصّدْقُ بَرِيدُ الْإِيمَانِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ بَلْ هُوَ لُبّهُ وَرُوحُهُ. وَالْكَذِبُ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالنّفَاقِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقه وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ وَلُبّهُ فَمُضَادّةُ الْكَذِبِ لِلْإِيمَانِ كَمُضَادّةِ الشّرْكِ لِلتّوْحِيدِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْكَذِبُ وَالْإِيمَانُ إلّا وَيَطّرِدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَيَسْتَقِرّ مَوْضِعُهُ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ أَنْجَى الثّلَاثَةَ بِصِدْقِهِمْ وَأَهْلَكَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْمُخَلّفِينَ بِكَذِبِهِمْ فَمَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَبْدٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنْ الصّدْقِ الّذِي هُوَ غِذَاءُ الْإِسْلَامِ وَحَيَاتِهِ وَلَا ابْتَلَاهُ بِبَلِيّةٍ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ الّذِي هُوَ مَرَضُ الْإِسْلَامِ وَفَسَادُهُ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.فَضْلُ التّوْبَةِ:

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوْبَةُ 117] هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَعْرِفُ الْعَبْدُ قَدْرَ التّوْبَةِ وَفَضْلِهَا عِنْدَ اللّهِ وَأَنّهَا غَايَةُ كَمَالِ الْمُؤْمِنِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلّهِ وَكَانَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا جَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْهِ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمّهُ إلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَعْرِفُ هَذَا حَقّ مَعْرِفَتِهِ إلّا مَنْ عَرَفَ اللّهَ وَعَرَفَ حُقُوقَهُ عَلَيْهِ وَعَرَفَ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ وَعَرَفَ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا وَأَنّ الّذِي قَامَ بِهِ مِنْ الْعُبُودِيّةِ بِالنّسْبَةِ إلَى حَقّ رَبّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ الْآفَاتِ الظّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَيْسَ إلّا ذَلِكَ أَوْ الْهَلَاكُ فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ عَذّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ.

.فصل مَعْنَى تَكْرِيرِ اللّهِ لِلَفْظِ التّوْبَةِ فِي الْآيَةِ:

وَتَأَمّلْ تَكْرِيرَهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مَرّتَيْنِ فِي أَوّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا فَإِنّهُ تَابَ عَلَيْهِمْ أَوّلًا بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتّوْبَةِ فَلَمّا تَابُوا تَابَ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ وَهُوَ الّذِي وَفّقَهُمْ لِفِعْلِهَا وَتَفَضّلَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا فَالْخَيْرُ كُلّهُ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إحْسَانًا وَفَضْلًا وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ حِكْمَةً وَعَدْلًا.

.فصل مَعْنَى كَلِمَةِ خُلّفُوا فِي الْآيَةِ:

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا} [التّوْبَةُ 118] قَدْ فَسّرَهَا كَعْبٌ بِالصّوَابِ وَهُوَ أَنّهُمْ خُلّفُوا مِنْ بَيْنِ حِلْفٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاعْتَذَرَ مِنْ الْمُتَخَلّفِينَ فَخَلّفَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةَ عَنْهُمْ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُمْ دُونَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخَلّفُهُمْ عَنْ الْغَزْوِ لِأَنّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ تَخَلّفُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ} [التّوْبَةُ 120] وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ تَخَلّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ تَخْلِيفِهِمْ عَنْ أَمْرِ الْمُتَخَلّفِينَ سِوَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي خَلّفَهُمْ عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَخَلّفُوا عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي حَجّةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ:

بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ تَبُوكَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنْصَرِفَهُ مِنْ تَبُوكَ بَقِيّةَ رَمَضَانَ وَشَوّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ سَنَةَ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجّهُمْ وَالنّاسُ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجّهِمْ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً قَلّدَهَا وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ عَلَيْهَا نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ خَمْسَ بَدَنَاتٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَضْبَاءِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَلَمّا كَانَ بِالْعَرْجِ- وَابْنُ عَائِذٍ يَقُول: بضجنان- لَحِقَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ قَالَ لَا بَلْ مَأْمُورٌ ثُمّ مَضَيَا وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ أَسْتَعْمَلَك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْحَجّ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ بَعَثَنِي أَقْرَأُ بَرَاءَةً عَلَى النّاسِ وَأَنْبِذُ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّاسِ حَجّهُمْ حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ قَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذّنَ فِي النّاسِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بِاَلّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَبَذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ وَقَالَ أَيّهَا النّاسُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهُوَ إلَى مُدّتِهِ وَقَالَ الْحُمَيْدِيّ حَدّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ الْهَمْدَانِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ سَأَلْنَا عَلِيّا بِأَيّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجّةِ؟ قَالَ بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إلّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَلَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدُ فَعَهْدُهُ إلَى مُدّتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أَرْبَعِ أَشْهُر وَفِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجّةِ فِي مُؤَذّنَيْنِ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النّحْرِ يُؤَذّنُونَ بِمِنًى: أَلّا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ ثُمّ أَرْدَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا بَكْرٍ بِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ بِبَرَاءَةٍ قَالَ فَأَذّنَ مَعَنَا عَلِيّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النّحْرِ بِبَرَاءَةٍ وَأَلّا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ.

.هَلْ كَانَتْ حَجّةُ الصّدّيقِ قَبْلَ فَرِيضَةِ الْحَجّ وَإِلْغَاءِ النّسِيءِ:

وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ وَاخْتُلِفَ فِي حَجّةِ الصّدّيقِ هَذِهِ هَلْ هِيَ الّتِي أَسْقَطَتْ الْفَرْضَ أَوْ الْمُسْقِطَةُ هِيَ حَجّةُ الْوَدَاعِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحّهُمَا: الثّانِي وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيّانِ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: هَلْ كَانَ الْحَجّ فُرِضَ قَبْلَ عَامِ حَجّةِ الْوَدَاعِ أَوْ لَا؟ وَالثّانِي: هَلْ كَانَتْ حَجّةُ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي ذِي الْحَجّةِ أَوْ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ أَجْلِ النّسِيءِ الّذِي كَانَ الْجَاهِلِيّةُ يُؤَخّرُونَ لَهُ الْأَشْهُرَ وَيُقَدّمُونَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالثّانِي: قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يُؤَخّرْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّ بَعْدَ فَرْضِهِ عَامًا وَاحِدًا بَلْ بَادَرَ إلَى الِامْتِثَالِ فِي الْعَامِ الّذِي فُرِضَ فِيهِ وَهَذَا هُوَ اللّائِقُ بِهَدْيِهِ وَحَالِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ بِيَدِ مَنْ ادّعَى تَقَدّمَ فَرْضِ الْحَجّ سَنَةَ سِتّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ. وَغَايَةُ مَا احْتَجّ بِهِ مَنْ قَالَ فُرِضَ سَنَةَ سِتّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [الْبَقَرَةُ 196] وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتّ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الْحَجّ وَإِنّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ إذَا شُرِعَ فِيهِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُجُوبِ ابْتِدَائِهِ وَآيَةُ فَرْضِ الْحَجّ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلُ عِمْرَانَ 97] عَامَ الْوُفُودِ أَوَاخِرَ سَنَةَ تِسْعٍ.